قذف المحصنات الغافلات المؤمنات
صفحة 1 من اصل 1
قذف المحصنات الغافلات المؤمنات
إن الحمد لله رب العالمين نحمده ونستعينه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، إنه من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }
آل عمران102.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } النساء1
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً {70 } يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً }[الأحزاب71،70 ]
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي نبينا محمد r، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار.
أحبتي في الله ......
هذا هو لقاءنا الأخير مع السبع الموبقات التي حذر منها النبي r في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي r قال: (( اجتنبوا السبع الموبقات )) . قالوا : يا رسول الله وما هُنَّ ؟
قال ((الشرك بالله، والسحرُ وقتلُ النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكلُ مال اليتيم، وأكلُ الربا، والتولي يوم الزحف وقذفُ المحصناتِ الغافلاتِ المؤمنات))(1).
ونحن اليوم على موعد مع الكبيرة الأخيرة ألا وهي
قذف المحصنات الغافلات المؤمنات
وحتى لا ينسحب بساط الوقت من تحت أقدامنا فسوف ينتظم حديثي مع حضراتكم في العناصر التالية.
أولاً : المعنى اللغوي.
ثانياً : شروط القذف وبما يثبت؟
ثالثاً : حكم القذف وعقوبته في الدنيا والآخرة.
رابعاً : نموذج من القذف البشع.
وأخيراً : صور مشرقة.
فأعيروني القلوب والأسماع، فإن هذا اللقاء من الأهمية بمكان .
أولاً : المعنى اللغوي.
جاء في لسان العرب لابن منظور :
القذف هو : الرمي والسَّب
ومعناه هنا : رمي المرأة بالزنا أو ما كان في معناه .
والمحصنات : جمع محصنة وهي المرأة المتزوجة .
والُمحْنَةُ ، والُحْصِنةُ كذلك : هي المرأة العفيفة البعيدة عن الريبة والشك .
والغافلات : من الغفلة ، وهي الترك والسهو .
والغافلات: هن البريئات الطوايا المطمئنات النفس لأنهن لم يفعلن شيئا يحذرونه، ويخفن منه.
ثانياً : شروط القذف وبما يثبت .
إن القذف لا يصبح جريمة تستحق الجلد إلا بشروط منها ما يجب توفره في القاذف ومنها ما يجب توفره في المقذوف ، ومنها ما يجب توفره في الشيء المقذوف به.
الشروط التي يجب توفرها في القاذف وهي :
*: العقل والبلوغ والاختيار .
وهذه الشروط هي أصل التكليف فإذا كان القاذف مجنوناً أو صغيراً أو مُكْرها فلا حد عليه . لقول النبي r في الحديث الذي رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، والحاكم وغيرهم من حديث عليّ وصحح الحديث شيخنا الألباني في صحيح الجامع أنه r قال : (( رُفِعَ القلمُ عن ثلاث ، عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يفيق ))
وفي لفظ ((عن المعتوه حتى يعقل)) ([1])
ولقوله r في الحديث الذي رواه الطبري عن ثوبان وصححه شيخنا الألباني في صحيح الجامع أنه r قال : ((رُفِعَ)) ، وفي لفظ ((وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه .)) ([2])
الشروط التي يجب توفرها في المقذوف وهي :
· العقل
· البلوغ (أيضاً) فلا يحد من قذف الصغير أو الصغيرة ، ولكن الإمام مالك رحمه الله يقول : إذا قذف بنتا قبل البلوغ ولكنها من الممكن أن يزنى بها والعياذ بها ، فإنه يستحق الحد لأنه قد يفسد عليها مستقبلها ويؤذي أهلها .
ولكن جمهور العلماء قالوا يَزر ، ولا حد عليه
· الإسلام : أي أن يكون المقذوف مسلماً
· العفة : أي يكون المقذوف عفيفاً بريئاً من فعل الفاحشة التي رمي بها .
· الحرية : أي أن يكون المقذوف حراً وإن كان قذف الحر للعبد محرماً .
لما رواه مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص أنه r قال :
((من قذف مملوكه بالزنا أقيم عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قاتل )) ([3])
ولما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة ، وهذا لفظ البخاري في كتاب الحدود أنه r قال :
(( من قذف مملوكه وهو بريء مما قال جُلِدَ يوم القيامة إلا أن يكون كما قال )) ([4])
الشوط التي يجب توفرها في المقذوف به وهي :
التصريح بالزنا أو التعريض الظاهر الذي يفهم منه القذف ويستوي في ذلك القول والكتابة.
ويثبت حد القذف بأحد أمرين
* إما بإقرار القاذف نفسه .
* أو بشهادة الشهود عليه .
ثالثاً : حكم القذف وعقوبته في الدنيا والآخرة .
أحبتي في الله :
إن الإسلام منهج حياة متكامل لا يقوم أساسا على العقوبة ، إنما يقوم على توفير أسباب الحياة النظيفة ، وتحقيق الضمانات والوقاية .
ثم يعاقب بعد ذلك من يدع الأخذ بهذه الأسباب الميسرة والضمانات الأمنية ليتمرغ في أحوال المعصية طائعاً مختاراً أو غير مضطر
ومن ثم يشدد الإسلام في عقوبة القذف جزافا هذا التشديد ويتوعد عليها بأشد الوعيد ، لأن ترك الألسنة تلقي التهم جزافا بدون بينة أو دليل بترك المجال فسيحاً لكل من شاء أن يقذف بتلك التهمة النكراء ، ثم يمضي آمنا مطمئنا فتصبح الجماعة وتمسي ، وإذا أعراضها مجرحة وسمعتها ملوثة
وإذا كل فرد فيها متهم ومهدد بالاتهام !!
وإذا كل زوج فيها يشك في زوجه !!
وكل رجل فيها يشك في أصله !!
وكل بيت فيها مهدد بالانهيار !!
وهي حالة من الشك ، والقلق والريبة لا تطاق !! ([5])
ومن هنا ..... صيانة للأعراض وحماية للمجتمع ، شدد الإسلام في عقوبة القذف .
وأوجب عل القاذف إذا لم يقم البنية ثلاثة أحكام وهي :
الأول : أن يجلد ثمانين جلدة .
الثاني : أن ترد شهادته أبدا .
الثالث : أن يصبح فاسقاً ليس بعدل لا عند الله ولا عن الناس وهذا كلام متفق عليه بين العلماء ، ما لم يتب القاذف إلى الله جل وعلا .
وهذه الأحكام الثلاثة نصت عليها آية محكمة واحدة من سورة النور قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ{4} إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور 5،4] .
أخرج أحمد وعبد الرزاق وأبو داود ، وابن جرير ، وابن المنذر وابن أبي حاتم، وابن مردوية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
لما نزلت هذه الآية قال سعد بن عبادة سيد الأنصار رضي الله عنه أهكذا أنزلت
يا رسول الله ؟!
فقال رسول الله r :
((يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقوله سيدكم ؟))
فقالوا : يا رسول الله لا تلمه فإنه رجل غيور ، والله ما تزوج امرأة قط إلا لكرا ، وما طلق امرأة قط فاجترأ رجل منَّا على أن يتزوجها من شدة غيرته .
فقال سعد بن عبادة رضي الله عنه : بأبي أنت وأمي يا رسول الله إني لأعلم أنها الحق، وأنها من الله ، ولكني تعجبت أني لو وجدت (لُكاعّا) – أي امرأة – قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى يأتي بأربعة شهداء فوالله لا آتي بهم إلا وقد قضى حاجته ))(1)
وفي رواية البخاري ومسلم من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال :
(( لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح ، فبلغ ذلك رسول الله r فقال: أتعجبون من غيرة سعد ؟ والله لأنا أغير منه والله أغير مني ، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ))(2)
وبالفعل لم يلبثوا إلا يسيرا ، وقد وقع ما ذكره سعد بن عبادة رضي الله عنه .
ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم ، وأحمد من غيرهم من حديث ابن عباس رضي الله عنها قال :
فما لبثوا إلا يسيرا حتى جاء هلال بن أمية من أرضه عشاءً فوجد عند امرأته رجلا يزني بها يقال له شريك بن سحماء فرأى هلال بن أمية بعينيه ، وسمع بإذنيه فلم يهيجه، حتى أصبح فغدا على رسول الله فقال : يا رسول الله ، إني جئت على أهلي عشاء فوجدت عندها رجلا فرأيت بعيني وسمعت بأذني !!
فكره رسول الله ما جاء واشتد عليه واجتمعت عليه الأنصار ، وقالوا : قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة .
وهكذا أيها الأحبة قذف هلال بن أمية زوجته عند النبي r بشريك بن سمحاء .
فقال النبي r : (( البينة أو حد ظهرك )).
فقال هلال : يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة ؟
فجعل النبي يقول : (( البينة ، أو حد ظهرك ))
فقال هلال : والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله ما يبريء ظهري من الحدِّ! يقول ابن عباس : فوالله إن رسول الله يريد أن يأمر بضربه إذ أنزل الله على رسوله الوحي، وكان إذا نزل الوحي عرفوا ذلك فأمسكوا حتى فرغ من الوحي .
فنزل قول الله تعالى(*) :{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ{6} وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ{7} عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ{8} وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ{9} وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ } [النور: 6-10].
فَسُرِّيَ عن رسول الله وقال :
((أبشر يا هلال فلقد جعل الله لك فرجا ومخرجا)) فقال هلال : قد كنت أرجو ذلك من ربي عز وجل فقال رسول الله : ((أرسلوا إليها )) فجاءت .
فتلا النبي r عليهما الآيات فذكرهما وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا .
فقال هلال : والله يا رسول الله لقد صدقت .
فقالت زوجته : كذب
فقال رسول الله : (( لاعنوا بينهما ))
فقيل لهلال : اشهد فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين .
فلما كانت الخامسة : قيل يا هلال اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وإن هذه الموجبة عليك العذاب .
فقال هلال : والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها .
فشهد في الخامسة : أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين .
ثم قيل للمرأة إشهدي أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين .
وقيل لها عند الخامسة : اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وإن هذه الموجبة عليك العذابك .
فتلكأت ساعة وهمت بالاعتراف .
ثم قالت : والله لا أفضح قومي .
فشهدت في الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين !! .
فَفَرَّق رسول الله r بينهما وقضى بأن الولد لها ولا يدعى لأب ولا يرمى ولدها .
ثم قال رسول الله: ((إن جاءت به (أي ولدها) أكحلُ العينين سابغ الألْيَتَيْن خَدَلَّج الساقين فهو لشريك بن سحماء))
فجاءت به كذلك .
فقال رسول الله : (( لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن )) ([6])
وثبت أيضاً في الصحيحين من حديث سهل بن سعد الساعدي أن آيات اللعان نزلت في عُويمر العجلاني .
ويتبين لنا أيها الأحبة أن اللعان بمنزلة البينة للرجل الذي رأى مع امرأته رجلاً ولا يمكنه أن يأتي بالبينة .
ويترتب على اللعان الأحكام التالية :
أولاً : الفرقة بين الرجل وزوجته .
ثانياً : تحرم عليه تحريماً أبدياً .
ثالثاً : ينتفي عنه النسب فلا ينسب الولد إليه .
رابعاً : يسقط عنه حد القذف .
خامساً : وجب على المرأة الرجم .
فإذا لا عنت الزوجة أيضاً وشهدت أربع شهادات بالله أن زوجها لمن الكاذبين ثم قالت في الخامسة أن غضب الله عليها إن كان زوجها من الصادقين فيما رماها به .
فإنه لا يتعلق بلعانها إلا حكم واحد وهو سقوط الحد عنها .
هذا هو حكم القذف . وهذه هي عقوبة القاذف في الدنيا .
أما عقوبته في الآخرة فإنها والله لقاسية يقول الله عز وجل :
{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ{23} يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ{24} يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور : 23-25]
رابعاً : نموذج من القذف البشع
من هذه النماذج البشعة ما حدث للطاهرة العفيفة .. الحصان الرزان الصديقة بنت الصديق عائشة رضي الله عنها !!
وتعالوا بنا أيها الأحباب نستمع إلى القصة كما ترويها أمنا أم المؤمنين عائشة تقول رضي الله عنها وأرضاها :
كان رسول الله r إذا أراد أن يخرج سفراً أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه .قالت : فأقرع بيننا في غزاة غزاها ، فخرج سهمي فخرجت معه بعدما أنزل الحجاب وأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه .
فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله من غزوته تلك وقفل ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت من شأني أقبلت إلى الرحل فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع أظفار وفي رواية : جزع أظفار قد انقطع فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه .
وأقبل الرهط الذي كانوا يرحلون لي فاحتملوا هودجي فرحلوا على بعيري الذي كنت أركب وهم يحسبون أني فيه وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يثقلن ولم يغشهن اللحم وإنما يأكلن العلقة من الطعام فلم يستنكر القوم حين رفعوه ثقل الهودج فحملوه وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل وساروا .
فوجدت عقدي بعدما استمر الجيش فجئت منزلهم وليس فيه أحد فتيممت منزلي الذي كنت فيه وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي فبينما أنا جالسة غلبتني عيناي فنمت. وكان صفوان ابن المعطل السلمي ثم الذكواني عرس من وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني .
وكان يراني قبل الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهه بجلبابي والله ما كلمني بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه .
وهوى حتى أناخ راحلته فوطيء عليها يديها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش قالت : فهلك من هلك في شأني وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبي بن سلول.
والحديث بطوله رواه البخاري ومسلم وغيرهما .
وفي بعض الروايات أن عبد الله بن أبي سلول لما رأى صفوان بن المعطل رضي الله عنه جاء مقبلاً يجر الراحلة بهودج أم المؤمنين رضي الله عنها .
قال رأس النفاق : من هذا ؟
قالوا : أم المؤمنين عائشة ،
فقال رأس النفاق : والله ما نجت منه ولا نجا منها !!
ثم قال – وبئس ما قال – امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ثم جاء يقودها .
يا لها من قولة خبيثة .. يا لها من قولة شديدة آثمة وطير المنافق هذه القولة وتناولتها عصابات النفاق .. وسقط في الهاوية بعض المسلمين ولاكت ألسنتهم هذه الفرية المرعبة!!
وماجت المدينة المطهرة بهذا الخبر الأليم شهراً كاملا!!
الله أكبر ... رسول الله يرمى في طهارة فراشه وهو الطاهر الذي فاضت طهارته على العالمين !!
رسول الله يرمى في صيانة حرمته وهو القائم على صيانة الحرمات في أمته!!
ها هو رسول الله يرمى في كل شيء حين يرمى في عائشة !!
يرمى في فراشه !! يرمى في شرفه !! يرمى في قلبه !! يرمى في رسالته !!
ولحكمة يعلمها اللطيف الخبير العليم يدع الله هذا الأمر شهراً كاملاً لا تنزل فيه آية على رسول الله r !!
ورسول الله r يتألم آلاماً تنوء الجبال الراسيات بحملها .
وها هي عائشة الصديقة ترمى في أعز ما تعتز به أي امرأة !!
ترمى في شرفها وهي التي ترتبت في العش الطاهر الرفيع !!
ترمى في إيمانها وهي الزهرة التي تفتحت في حقل الإسلام وبستان الوحي !! وعلى
يد مَنْ؟!
على يد سيد البشر محمد r .
وها هو أبو بكر الصديق يحطمه الألم وهو يرمى في عرضه !!
وفي من ؟! في ابنته زوج رسول الله r صاحبه وحبيبه ونبيه ورسوله الذي آمن به وصدقه.
ولكنه الصابر المحتسب القوي على آلامه وجراحه .
فيقول بمرارة مريرة :
والله ما رمينا بهذا في الجاهلية أفنرمى به في الإسلام !!
وها هو الصحابي الجليل الطيب الطاهر المجاهد في سبيل الله صفوان بن المعطل يرمى بخيانة نبيه في زوجه !!
فيرمى بذلك في إسلامه وفي أمانته وفي شرفه !!
الله أكبر ... إنها خطورة الكلمة !!
ونعود إلى أمنا أم المؤمنين الصديقة الطاهرة الشريفة العفيفة عائشة رضي الله عنها عندما علمت أن الناس تلكموا غيها وفي عرضها
تقول : فقلت : سبحان الله وقد تحدث الناس بهذا ؟! أي بالإفك .
قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ثم أصبحت أبكي
فدعا رسول الله r علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استبلث الوحي([7]) يشيرهما في فراق أهله .
قالت : فأما أسامة فأشار عليه بما يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم في نفسه من الود لهم
فقال أسامة : هم أهلك ([8])يا رسول الله ولا نعلمن والله إلا خيراً .
وأما علي بن أبي طالب فقال : يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير([9])
قالت : وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم حتى أظن أن البكاء فالق كبدي .
قالت فبينما أبواي جالسان عندي وأنا أبكي إذ استأذنت امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي .
فبينما نحن كذلك إذ دخل علينا رسول الله r فسلم ثم جلس .
قالت : ولم يجلس عندي من يوم قيل ما قيل ؟
وقد مكث شهراً لا يوحى إليه في شأني بشيء .
قالت فتشهد رسول الله r حين جلس ثم قال :
((أما بعد يا عائشة إنه قد بلغني عنك كذا كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله – عز وجل – وإن كنت قد ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه ، فإن العبد إن أذنب واعترف بذنبه وتاب إلى الله ، تاب الله عليه )) ([10])
فلما قضى رسول الله r مقالته قلص دمعي حتى ما أحس عنه قطرة فقلت لأبي أجب عني رسول الله r فيما قال !!
قال : والله يا ابنتي ما أدري ما أقول لرسول الله r .
فقلت لأمي : أجيبي عني رسول الله فيما قال .
قالت : والله يا ابنتي ما أدري ما أقول لرسول الله r .
قالت : وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيراً من القرآن
فقلت : إني والله لقد علمت أنكم سمعتم ما تحدث الناس به حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به لئن قلت لكم إني بريئة والله يعلم إني بريئة لا تصدقوني بذلك ولئن اعترف لكم بأمر والله يعلم أني بريئة لتصدقني فوالله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا أبا يوسف إذ قال :
{وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [يوسف/18] .
ثم تحولت فاضطجعت على فراشي وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة وأن الله مبرئي ببرائتي .
ولكن والله ما كنت أظن أن الله ينزل في شأني وحياً يتلى ، ولأنا أحقر في نفسي من أن يتكلم الله بالقرآن في أمري .
ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله r في النوم رؤيا يبرئني الله بها قالت : فوالله
ما رام([11]) رسول الله r مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل الله على نبيه ، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء([12]) حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في يوم شاتٍ من ثقل القول الذي أنزل عليه .
قالت فَسُرِّ عن رسول الله r وهو يضحك وكان أول كلمة تكلم بها أن قال لي : يا عائشة احمدي الله .
ومن الرواة من قال : أبشري يا عائشة أما الله فقد برأك
فقالت لي أمي : قومي إلى رسول الله r .
فقلت : لا والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله هو الذي أنزل برءتي فأنزل الله عز وجل.{إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ{11} لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ{12} لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ{13} وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ{14} إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ{15} وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ{16} يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ{17} وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ{18} إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }([13])[ النور / 11- 19] .
في مقابل هذه الصورة القاتمة البشعة (صورة الإفك) نرى هذه الصورة المشرقة الوضيئة.
إنه الفتى الذي لم يجاوز العاشرة من عمره إلا قليلاً .
إنه عمير بن سعد الذي مات أبوه وتزوجت أمه برجل ثري يقال له : الجلاس بن سويد الذي أحب عميراً حباً شديداً .
وفي السنة التاسعة للهجرة أمر النبي r المسلمين أن يستعدوا ويتجهزوا لغزوة تبوك وتسابق المؤمنون الصادقون وتكاسل المنافقون وذهب الفتى المؤمن عمير بن سعد ليقص على الجلاس ما رأى وما سمع من المؤمنين الصادقين الذين راحوا يبذلون كل ما يملكون لرسول الله r .
وإذ بالجلاس ينطق بعبارة تخرجه من الإسلام دفعة واحدة وتدخله في الكفر من أوسع أبوابه فلقد قال الجلاس لعمير : إن كان محمد صادقاً فيما يدعيه فنحن شر من الحمير !!!
فالتفت الفتى المؤمن عمير بن سعد إلى الجلاس وقال :
والله ما كان على ظهر الأرض أحد بعد رسول الله r أحب إليّ منك فأنت آثر الناس عندي وأجلهم على ولقد قلت مقالة إن ذكرتها فضحتك وإن أخفيتها خُنْتُ أمانتي وأهلكت نفسي وديني وقد عزمت على أن أمضي إلى رسول الله r وأخبره بما قلت فكن على بينة من أمرك . ومشى عمير بن سعد وأخبر النبي r بما سمع من الجلاس بن سويد . فاستبقاه الرسول r عنده وأرسل أحد أصحابه ليدعو له الجلاس فجاء الجلاس وحيا النبي r وجلس بين يديه .
فقال له النبي r : ما مقالة سمعها منك عمير بن سعد ؟!
وذكر له النبي ما قال . فقال الجلاس : كذب على يا رسول الله وافترى !! فما تفوهت بشيء من ذلك وإني أحلف بالله أني ما قلت شيئا مما نقله لك عمير !! والتفت الرسول r إلى عمير فرأى وجهه وقد احتقن بالدم والدموع تنحدر مدراراً من عينيه فتتساقط على خديه وصدره ، وهو يقول : اللهم أنزل على نبيك بيان ما تكلمت به واستجاب الله دعوة هذا الفتى المؤمن فغشيت رسول الله السكينة فعرفوا أنه الوحي فلزموا أماكنهم وسكنت جوارحهم ولاذوا بالصمت ، وتعلقت أبصارهم بالنبي r يتلو قول الله عز وجل :
{يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}[التوبة:74]
فارتعد الجلاس من هول ما سمع ، وظل يصرخ : بل أتوب يا رسول الله !! بل أتوب يا رسول الله !! صدق عمير يا رسول الله وكنت من الكاذبين !!
وهنا توجه النبي r إلى الفتى البار .... إلى الفتى الصادق عمير بن سعد ودموع الفرح تبلل وجهه المشرق بنور الإيمان ، فمد الرسول الكريم يده الشريفة إلى أذن عمير وأمسكها برفق وقال : وفت أذنك ما سمعت وصدقك ربك يا عمير (1)
أسأل الله جل وعلا أن يسترنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض.
*********************************************************************
الحسن محمد العرابي
مراقب حجرصحي ومفتش اغذية بمواني البحر الاحمر
*********************************************************************
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }
آل عمران102.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } النساء1
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً {70 } يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً }[الأحزاب71،70 ]
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي نبينا محمد r، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار.
أحبتي في الله ......
هذا هو لقاءنا الأخير مع السبع الموبقات التي حذر منها النبي r في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي r قال: (( اجتنبوا السبع الموبقات )) . قالوا : يا رسول الله وما هُنَّ ؟
قال ((الشرك بالله، والسحرُ وقتلُ النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكلُ مال اليتيم، وأكلُ الربا، والتولي يوم الزحف وقذفُ المحصناتِ الغافلاتِ المؤمنات))(1).
ونحن اليوم على موعد مع الكبيرة الأخيرة ألا وهي
قذف المحصنات الغافلات المؤمنات
وحتى لا ينسحب بساط الوقت من تحت أقدامنا فسوف ينتظم حديثي مع حضراتكم في العناصر التالية.
أولاً : المعنى اللغوي.
ثانياً : شروط القذف وبما يثبت؟
ثالثاً : حكم القذف وعقوبته في الدنيا والآخرة.
رابعاً : نموذج من القذف البشع.
وأخيراً : صور مشرقة.
فأعيروني القلوب والأسماع، فإن هذا اللقاء من الأهمية بمكان .
أولاً : المعنى اللغوي.
جاء في لسان العرب لابن منظور :
القذف هو : الرمي والسَّب
ومعناه هنا : رمي المرأة بالزنا أو ما كان في معناه .
والمحصنات : جمع محصنة وهي المرأة المتزوجة .
والُمحْنَةُ ، والُحْصِنةُ كذلك : هي المرأة العفيفة البعيدة عن الريبة والشك .
والغافلات : من الغفلة ، وهي الترك والسهو .
والغافلات: هن البريئات الطوايا المطمئنات النفس لأنهن لم يفعلن شيئا يحذرونه، ويخفن منه.
ثانياً : شروط القذف وبما يثبت .
إن القذف لا يصبح جريمة تستحق الجلد إلا بشروط منها ما يجب توفره في القاذف ومنها ما يجب توفره في المقذوف ، ومنها ما يجب توفره في الشيء المقذوف به.
الشروط التي يجب توفرها في القاذف وهي :
*: العقل والبلوغ والاختيار .
وهذه الشروط هي أصل التكليف فإذا كان القاذف مجنوناً أو صغيراً أو مُكْرها فلا حد عليه . لقول النبي r في الحديث الذي رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، والحاكم وغيرهم من حديث عليّ وصحح الحديث شيخنا الألباني في صحيح الجامع أنه r قال : (( رُفِعَ القلمُ عن ثلاث ، عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يفيق ))
وفي لفظ ((عن المعتوه حتى يعقل)) ([1])
ولقوله r في الحديث الذي رواه الطبري عن ثوبان وصححه شيخنا الألباني في صحيح الجامع أنه r قال : ((رُفِعَ)) ، وفي لفظ ((وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه .)) ([2])
الشروط التي يجب توفرها في المقذوف وهي :
· العقل
· البلوغ (أيضاً) فلا يحد من قذف الصغير أو الصغيرة ، ولكن الإمام مالك رحمه الله يقول : إذا قذف بنتا قبل البلوغ ولكنها من الممكن أن يزنى بها والعياذ بها ، فإنه يستحق الحد لأنه قد يفسد عليها مستقبلها ويؤذي أهلها .
ولكن جمهور العلماء قالوا يَزر ، ولا حد عليه
· الإسلام : أي أن يكون المقذوف مسلماً
· العفة : أي يكون المقذوف عفيفاً بريئاً من فعل الفاحشة التي رمي بها .
· الحرية : أي أن يكون المقذوف حراً وإن كان قذف الحر للعبد محرماً .
لما رواه مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص أنه r قال :
((من قذف مملوكه بالزنا أقيم عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قاتل )) ([3])
ولما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة ، وهذا لفظ البخاري في كتاب الحدود أنه r قال :
(( من قذف مملوكه وهو بريء مما قال جُلِدَ يوم القيامة إلا أن يكون كما قال )) ([4])
الشوط التي يجب توفرها في المقذوف به وهي :
التصريح بالزنا أو التعريض الظاهر الذي يفهم منه القذف ويستوي في ذلك القول والكتابة.
ويثبت حد القذف بأحد أمرين
* إما بإقرار القاذف نفسه .
* أو بشهادة الشهود عليه .
ثالثاً : حكم القذف وعقوبته في الدنيا والآخرة .
أحبتي في الله :
إن الإسلام منهج حياة متكامل لا يقوم أساسا على العقوبة ، إنما يقوم على توفير أسباب الحياة النظيفة ، وتحقيق الضمانات والوقاية .
ثم يعاقب بعد ذلك من يدع الأخذ بهذه الأسباب الميسرة والضمانات الأمنية ليتمرغ في أحوال المعصية طائعاً مختاراً أو غير مضطر
ومن ثم يشدد الإسلام في عقوبة القذف جزافا هذا التشديد ويتوعد عليها بأشد الوعيد ، لأن ترك الألسنة تلقي التهم جزافا بدون بينة أو دليل بترك المجال فسيحاً لكل من شاء أن يقذف بتلك التهمة النكراء ، ثم يمضي آمنا مطمئنا فتصبح الجماعة وتمسي ، وإذا أعراضها مجرحة وسمعتها ملوثة
وإذا كل فرد فيها متهم ومهدد بالاتهام !!
وإذا كل زوج فيها يشك في زوجه !!
وكل رجل فيها يشك في أصله !!
وكل بيت فيها مهدد بالانهيار !!
وهي حالة من الشك ، والقلق والريبة لا تطاق !! ([5])
ومن هنا ..... صيانة للأعراض وحماية للمجتمع ، شدد الإسلام في عقوبة القذف .
وأوجب عل القاذف إذا لم يقم البنية ثلاثة أحكام وهي :
الأول : أن يجلد ثمانين جلدة .
الثاني : أن ترد شهادته أبدا .
الثالث : أن يصبح فاسقاً ليس بعدل لا عند الله ولا عن الناس وهذا كلام متفق عليه بين العلماء ، ما لم يتب القاذف إلى الله جل وعلا .
وهذه الأحكام الثلاثة نصت عليها آية محكمة واحدة من سورة النور قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ{4} إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور 5،4] .
أخرج أحمد وعبد الرزاق وأبو داود ، وابن جرير ، وابن المنذر وابن أبي حاتم، وابن مردوية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
لما نزلت هذه الآية قال سعد بن عبادة سيد الأنصار رضي الله عنه أهكذا أنزلت
يا رسول الله ؟!
فقال رسول الله r :
((يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقوله سيدكم ؟))
فقالوا : يا رسول الله لا تلمه فإنه رجل غيور ، والله ما تزوج امرأة قط إلا لكرا ، وما طلق امرأة قط فاجترأ رجل منَّا على أن يتزوجها من شدة غيرته .
فقال سعد بن عبادة رضي الله عنه : بأبي أنت وأمي يا رسول الله إني لأعلم أنها الحق، وأنها من الله ، ولكني تعجبت أني لو وجدت (لُكاعّا) – أي امرأة – قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى يأتي بأربعة شهداء فوالله لا آتي بهم إلا وقد قضى حاجته ))(1)
وفي رواية البخاري ومسلم من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال :
(( لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح ، فبلغ ذلك رسول الله r فقال: أتعجبون من غيرة سعد ؟ والله لأنا أغير منه والله أغير مني ، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ))(2)
وبالفعل لم يلبثوا إلا يسيرا ، وقد وقع ما ذكره سعد بن عبادة رضي الله عنه .
ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم ، وأحمد من غيرهم من حديث ابن عباس رضي الله عنها قال :
فما لبثوا إلا يسيرا حتى جاء هلال بن أمية من أرضه عشاءً فوجد عند امرأته رجلا يزني بها يقال له شريك بن سحماء فرأى هلال بن أمية بعينيه ، وسمع بإذنيه فلم يهيجه، حتى أصبح فغدا على رسول الله فقال : يا رسول الله ، إني جئت على أهلي عشاء فوجدت عندها رجلا فرأيت بعيني وسمعت بأذني !!
فكره رسول الله ما جاء واشتد عليه واجتمعت عليه الأنصار ، وقالوا : قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة .
وهكذا أيها الأحبة قذف هلال بن أمية زوجته عند النبي r بشريك بن سمحاء .
فقال النبي r : (( البينة أو حد ظهرك )).
فقال هلال : يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة ؟
فجعل النبي يقول : (( البينة ، أو حد ظهرك ))
فقال هلال : والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله ما يبريء ظهري من الحدِّ! يقول ابن عباس : فوالله إن رسول الله يريد أن يأمر بضربه إذ أنزل الله على رسوله الوحي، وكان إذا نزل الوحي عرفوا ذلك فأمسكوا حتى فرغ من الوحي .
فنزل قول الله تعالى(*) :{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ{6} وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ{7} عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ{8} وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ{9} وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ } [النور: 6-10].
فَسُرِّيَ عن رسول الله وقال :
((أبشر يا هلال فلقد جعل الله لك فرجا ومخرجا)) فقال هلال : قد كنت أرجو ذلك من ربي عز وجل فقال رسول الله : ((أرسلوا إليها )) فجاءت .
فتلا النبي r عليهما الآيات فذكرهما وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا .
فقال هلال : والله يا رسول الله لقد صدقت .
فقالت زوجته : كذب
فقال رسول الله : (( لاعنوا بينهما ))
فقيل لهلال : اشهد فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين .
فلما كانت الخامسة : قيل يا هلال اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وإن هذه الموجبة عليك العذاب .
فقال هلال : والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها .
فشهد في الخامسة : أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين .
ثم قيل للمرأة إشهدي أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين .
وقيل لها عند الخامسة : اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وإن هذه الموجبة عليك العذابك .
فتلكأت ساعة وهمت بالاعتراف .
ثم قالت : والله لا أفضح قومي .
فشهدت في الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين !! .
فَفَرَّق رسول الله r بينهما وقضى بأن الولد لها ولا يدعى لأب ولا يرمى ولدها .
ثم قال رسول الله: ((إن جاءت به (أي ولدها) أكحلُ العينين سابغ الألْيَتَيْن خَدَلَّج الساقين فهو لشريك بن سحماء))
فجاءت به كذلك .
فقال رسول الله : (( لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن )) ([6])
وثبت أيضاً في الصحيحين من حديث سهل بن سعد الساعدي أن آيات اللعان نزلت في عُويمر العجلاني .
ويتبين لنا أيها الأحبة أن اللعان بمنزلة البينة للرجل الذي رأى مع امرأته رجلاً ولا يمكنه أن يأتي بالبينة .
ويترتب على اللعان الأحكام التالية :
أولاً : الفرقة بين الرجل وزوجته .
ثانياً : تحرم عليه تحريماً أبدياً .
ثالثاً : ينتفي عنه النسب فلا ينسب الولد إليه .
رابعاً : يسقط عنه حد القذف .
خامساً : وجب على المرأة الرجم .
فإذا لا عنت الزوجة أيضاً وشهدت أربع شهادات بالله أن زوجها لمن الكاذبين ثم قالت في الخامسة أن غضب الله عليها إن كان زوجها من الصادقين فيما رماها به .
فإنه لا يتعلق بلعانها إلا حكم واحد وهو سقوط الحد عنها .
هذا هو حكم القذف . وهذه هي عقوبة القاذف في الدنيا .
أما عقوبته في الآخرة فإنها والله لقاسية يقول الله عز وجل :
{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ{23} يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ{24} يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور : 23-25]
رابعاً : نموذج من القذف البشع
من هذه النماذج البشعة ما حدث للطاهرة العفيفة .. الحصان الرزان الصديقة بنت الصديق عائشة رضي الله عنها !!
وتعالوا بنا أيها الأحباب نستمع إلى القصة كما ترويها أمنا أم المؤمنين عائشة تقول رضي الله عنها وأرضاها :
كان رسول الله r إذا أراد أن يخرج سفراً أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه .قالت : فأقرع بيننا في غزاة غزاها ، فخرج سهمي فخرجت معه بعدما أنزل الحجاب وأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه .
فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله من غزوته تلك وقفل ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت من شأني أقبلت إلى الرحل فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع أظفار وفي رواية : جزع أظفار قد انقطع فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه .
وأقبل الرهط الذي كانوا يرحلون لي فاحتملوا هودجي فرحلوا على بعيري الذي كنت أركب وهم يحسبون أني فيه وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يثقلن ولم يغشهن اللحم وإنما يأكلن العلقة من الطعام فلم يستنكر القوم حين رفعوه ثقل الهودج فحملوه وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل وساروا .
فوجدت عقدي بعدما استمر الجيش فجئت منزلهم وليس فيه أحد فتيممت منزلي الذي كنت فيه وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إلي فبينما أنا جالسة غلبتني عيناي فنمت. وكان صفوان ابن المعطل السلمي ثم الذكواني عرس من وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني .
وكان يراني قبل الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهه بجلبابي والله ما كلمني بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه .
وهوى حتى أناخ راحلته فوطيء عليها يديها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش قالت : فهلك من هلك في شأني وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبي بن سلول.
والحديث بطوله رواه البخاري ومسلم وغيرهما .
وفي بعض الروايات أن عبد الله بن أبي سلول لما رأى صفوان بن المعطل رضي الله عنه جاء مقبلاً يجر الراحلة بهودج أم المؤمنين رضي الله عنها .
قال رأس النفاق : من هذا ؟
قالوا : أم المؤمنين عائشة ،
فقال رأس النفاق : والله ما نجت منه ولا نجا منها !!
ثم قال – وبئس ما قال – امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ثم جاء يقودها .
يا لها من قولة خبيثة .. يا لها من قولة شديدة آثمة وطير المنافق هذه القولة وتناولتها عصابات النفاق .. وسقط في الهاوية بعض المسلمين ولاكت ألسنتهم هذه الفرية المرعبة!!
وماجت المدينة المطهرة بهذا الخبر الأليم شهراً كاملا!!
الله أكبر ... رسول الله يرمى في طهارة فراشه وهو الطاهر الذي فاضت طهارته على العالمين !!
رسول الله يرمى في صيانة حرمته وهو القائم على صيانة الحرمات في أمته!!
ها هو رسول الله يرمى في كل شيء حين يرمى في عائشة !!
يرمى في فراشه !! يرمى في شرفه !! يرمى في قلبه !! يرمى في رسالته !!
ولحكمة يعلمها اللطيف الخبير العليم يدع الله هذا الأمر شهراً كاملاً لا تنزل فيه آية على رسول الله r !!
ورسول الله r يتألم آلاماً تنوء الجبال الراسيات بحملها .
وها هي عائشة الصديقة ترمى في أعز ما تعتز به أي امرأة !!
ترمى في شرفها وهي التي ترتبت في العش الطاهر الرفيع !!
ترمى في إيمانها وهي الزهرة التي تفتحت في حقل الإسلام وبستان الوحي !! وعلى
يد مَنْ؟!
على يد سيد البشر محمد r .
وها هو أبو بكر الصديق يحطمه الألم وهو يرمى في عرضه !!
وفي من ؟! في ابنته زوج رسول الله r صاحبه وحبيبه ونبيه ورسوله الذي آمن به وصدقه.
ولكنه الصابر المحتسب القوي على آلامه وجراحه .
فيقول بمرارة مريرة :
والله ما رمينا بهذا في الجاهلية أفنرمى به في الإسلام !!
وها هو الصحابي الجليل الطيب الطاهر المجاهد في سبيل الله صفوان بن المعطل يرمى بخيانة نبيه في زوجه !!
فيرمى بذلك في إسلامه وفي أمانته وفي شرفه !!
الله أكبر ... إنها خطورة الكلمة !!
ونعود إلى أمنا أم المؤمنين الصديقة الطاهرة الشريفة العفيفة عائشة رضي الله عنها عندما علمت أن الناس تلكموا غيها وفي عرضها
تقول : فقلت : سبحان الله وقد تحدث الناس بهذا ؟! أي بالإفك .
قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ثم أصبحت أبكي
فدعا رسول الله r علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استبلث الوحي([7]) يشيرهما في فراق أهله .
قالت : فأما أسامة فأشار عليه بما يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم في نفسه من الود لهم
فقال أسامة : هم أهلك ([8])يا رسول الله ولا نعلمن والله إلا خيراً .
وأما علي بن أبي طالب فقال : يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير([9])
قالت : وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم حتى أظن أن البكاء فالق كبدي .
قالت فبينما أبواي جالسان عندي وأنا أبكي إذ استأذنت امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي .
فبينما نحن كذلك إذ دخل علينا رسول الله r فسلم ثم جلس .
قالت : ولم يجلس عندي من يوم قيل ما قيل ؟
وقد مكث شهراً لا يوحى إليه في شأني بشيء .
قالت فتشهد رسول الله r حين جلس ثم قال :
((أما بعد يا عائشة إنه قد بلغني عنك كذا كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله – عز وجل – وإن كنت قد ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه ، فإن العبد إن أذنب واعترف بذنبه وتاب إلى الله ، تاب الله عليه )) ([10])
فلما قضى رسول الله r مقالته قلص دمعي حتى ما أحس عنه قطرة فقلت لأبي أجب عني رسول الله r فيما قال !!
قال : والله يا ابنتي ما أدري ما أقول لرسول الله r .
فقلت لأمي : أجيبي عني رسول الله فيما قال .
قالت : والله يا ابنتي ما أدري ما أقول لرسول الله r .
قالت : وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيراً من القرآن
فقلت : إني والله لقد علمت أنكم سمعتم ما تحدث الناس به حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به لئن قلت لكم إني بريئة والله يعلم إني بريئة لا تصدقوني بذلك ولئن اعترف لكم بأمر والله يعلم أني بريئة لتصدقني فوالله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا أبا يوسف إذ قال :
{وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [يوسف/18] .
ثم تحولت فاضطجعت على فراشي وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة وأن الله مبرئي ببرائتي .
ولكن والله ما كنت أظن أن الله ينزل في شأني وحياً يتلى ، ولأنا أحقر في نفسي من أن يتكلم الله بالقرآن في أمري .
ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله r في النوم رؤيا يبرئني الله بها قالت : فوالله
ما رام([11]) رسول الله r مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل الله على نبيه ، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء([12]) حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في يوم شاتٍ من ثقل القول الذي أنزل عليه .
قالت فَسُرِّ عن رسول الله r وهو يضحك وكان أول كلمة تكلم بها أن قال لي : يا عائشة احمدي الله .
ومن الرواة من قال : أبشري يا عائشة أما الله فقد برأك
فقالت لي أمي : قومي إلى رسول الله r .
فقلت : لا والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله هو الذي أنزل برءتي فأنزل الله عز وجل.{إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ{11} لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ{12} لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ{13} وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ{14} إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ{15} وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ{16} يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ{17} وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ{18} إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }([13])[ النور / 11- 19] .
في مقابل هذه الصورة القاتمة البشعة (صورة الإفك) نرى هذه الصورة المشرقة الوضيئة.
إنه الفتى الذي لم يجاوز العاشرة من عمره إلا قليلاً .
إنه عمير بن سعد الذي مات أبوه وتزوجت أمه برجل ثري يقال له : الجلاس بن سويد الذي أحب عميراً حباً شديداً .
وفي السنة التاسعة للهجرة أمر النبي r المسلمين أن يستعدوا ويتجهزوا لغزوة تبوك وتسابق المؤمنون الصادقون وتكاسل المنافقون وذهب الفتى المؤمن عمير بن سعد ليقص على الجلاس ما رأى وما سمع من المؤمنين الصادقين الذين راحوا يبذلون كل ما يملكون لرسول الله r .
وإذ بالجلاس ينطق بعبارة تخرجه من الإسلام دفعة واحدة وتدخله في الكفر من أوسع أبوابه فلقد قال الجلاس لعمير : إن كان محمد صادقاً فيما يدعيه فنحن شر من الحمير !!!
فالتفت الفتى المؤمن عمير بن سعد إلى الجلاس وقال :
والله ما كان على ظهر الأرض أحد بعد رسول الله r أحب إليّ منك فأنت آثر الناس عندي وأجلهم على ولقد قلت مقالة إن ذكرتها فضحتك وإن أخفيتها خُنْتُ أمانتي وأهلكت نفسي وديني وقد عزمت على أن أمضي إلى رسول الله r وأخبره بما قلت فكن على بينة من أمرك . ومشى عمير بن سعد وأخبر النبي r بما سمع من الجلاس بن سويد . فاستبقاه الرسول r عنده وأرسل أحد أصحابه ليدعو له الجلاس فجاء الجلاس وحيا النبي r وجلس بين يديه .
فقال له النبي r : ما مقالة سمعها منك عمير بن سعد ؟!
وذكر له النبي ما قال . فقال الجلاس : كذب على يا رسول الله وافترى !! فما تفوهت بشيء من ذلك وإني أحلف بالله أني ما قلت شيئا مما نقله لك عمير !! والتفت الرسول r إلى عمير فرأى وجهه وقد احتقن بالدم والدموع تنحدر مدراراً من عينيه فتتساقط على خديه وصدره ، وهو يقول : اللهم أنزل على نبيك بيان ما تكلمت به واستجاب الله دعوة هذا الفتى المؤمن فغشيت رسول الله السكينة فعرفوا أنه الوحي فلزموا أماكنهم وسكنت جوارحهم ولاذوا بالصمت ، وتعلقت أبصارهم بالنبي r يتلو قول الله عز وجل :
{يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}[التوبة:74]
فارتعد الجلاس من هول ما سمع ، وظل يصرخ : بل أتوب يا رسول الله !! بل أتوب يا رسول الله !! صدق عمير يا رسول الله وكنت من الكاذبين !!
وهنا توجه النبي r إلى الفتى البار .... إلى الفتى الصادق عمير بن سعد ودموع الفرح تبلل وجهه المشرق بنور الإيمان ، فمد الرسول الكريم يده الشريفة إلى أذن عمير وأمسكها برفق وقال : وفت أذنك ما سمعت وصدقك ربك يا عمير (1)
أسأل الله جل وعلا أن يسترنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض.
*********************************************************************
الحسن محمد العرابي
مراقب حجرصحي ومفتش اغذية بمواني البحر الاحمر
*********************************************************************
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى