قصة ٌمن أروع القصص
صفحة 1 من اصل 1
قصة ٌمن أروع القصص
قصة ٌمن أروع القصص
أورد ابنُالجوزي في "صفة الصفوة" وابنُ النحاس في "مشارع الأشواق" عن رجل من الصالحين اسمه أبوقدامة الشامي..
وكان رجلاً قد حبب إليه الجهاد والغزو في سبيل الله ، فلايسمع بغزوة في سبيل الله ولا بقتال بين المسلمين والكفار إلا وسارع وقاتل معالمسلمين فيه ، فجلس مرة في الحرم المدني فسأله سائل فقال : يا أبا قدامة أنت رجلقد حُبب إليك الجهاد والغزو في سبيل الله فحدثنا بأعجب ما رأيت من أمر الجهادوالغزوفقال أبو قدامة : إني محدثكم عن ذلك :
القصــه
خرجت مرة معأصحاب لي لقتال الصليبيين على بعض الثغور ( والثغور هي مراكز عسكرية تجعل على حدودالبلاد الإسلامية لصد الكفار عنها ) فمررت في طريقي بمدينة الرقة ( مدينةٍ فيالعراق على نهر الفرات ) واشتريت منها جملاً أحمل عليه سلاحي، ووعظت الناس فيمساجدها وحثثتهم على الجهاد والإنفاق في سبيل الله، فلما جن علي الليل اكتريتمنزلاً أبيت فيه ، فلما ذهب بعض الليل فإذا بالباب يُطرق عليّ ، فلما فتحت البابفإذا بامرأة متحصنة قد تلفعت بجلبابها فقلت : ما تريدين ؟
قالت : أنتأبو قدامة ؟ قلت : نعم قالت : أنت الذي جمعت المال اليوم للثغور؟
قلت : نعم ، فدفعت إلي رقعة وخرقة مشدودة وانصرفت باكية، فنظرت إلى الرقعةفإذا فيها: "إنك دعوتنا إلى الجهاد ولا قدرة لي على ذلك فقطعت أحسن ما فيَّ وهماضفيرتاي وأنفذتهما إليك لتجعلهما قيد فرسك لعل الله يرى شعري قيد فرسك في سبيلهفيغفر لي".
قال أبو قدامة : فعجبت والله من حرصها وبذلها ، وشدة شوقهاإلى المغفرة والجنة.
فلما أصبحنا خرجت أنا وأصحابي من الرقة ، فلما بلغنا حصن مسلمةبن عبد الملك فإذا بفارس يصيح وراءنا وينادي يقول : يا أبا قدامة يا أبا قدامة ، قفعليَّ يرحمك الله ، قال أبو قدامة : فقلت لأصحابي : تقدموا عني وأنا أنظر خبر هذاالفارس ، فلما رجعت إليه ، بدأني بالكلام وقال : الحمد لله الذي لم يحرمني صحبتكولم يردني خائباً. فقلت له ما تريد : قال أريد الخروج معكم للقتال . فقلت له : أسفر عن وجهك أنظر إليك فإن كنت كبيراً يلزمكالقتال قبلتك ، وإن كنت صغيراً لا يلزمك الجهاد رددتك.
فقال : فكشفاللثام عن وجهه فإذا بوجه مثل القمر وإذا هو غلام عمره سبع عشرةسنة.
فقلت له : يا بني ؟ عندك والد ؟
قال : أبي قد قتلهالصليبيون وأنا خارج أقاتل الذين قتلوا أبي. قلت : أعندك والدة ؟ قال : نعم
قلت : ارجع إلى أمك فأحسن صحبتها فإن الجنة تحت قدميها فقال : أما تعرف أمي ؟
قلت : لا.. قال : أمي هي صاحبةالوديعة، قلت : أي وديعة ؟
قال : هي صاحبةالشكال، قلت : أي شكال ؟
قال : سبحان الله ما أسرع ما نسيت !! أما تذكر المرأة التي أتتك البارحة وأعطتك الكيس والشكال ؟؟ قلت : بلى
قال : هي أمي ، أمرتني أن أخرج إلى الجهاد ، وأقسمت عليَّ أن لا أرجع
وإنها قالت لي : يا بني إذا لقيت الكفار فلا تولهم الدُبُر ، وهَب نفسك لله واطلبمجاورة الله، ومساكنة أبيك وأخوالك في الجنة ، فإذا رزقكالله الشهادة فاشفعفيَّ.. ثم ضمتني إلى صدرها ، ورفعت بصرها إلى السماء ، وقالت : إلهي وسيدي ومولاي،هذا ولدي ، وريحانةُ قلبي، وثمرةُ فؤادي ، سلمته إليك فقربه من أبيهوأخواله..
ثم قال: سألتك بالله ألا تحرمني الغزو معك في سبيل الله ، أناإن شاء الله الشهيد ابن الشهيد ، فإني حافظ لكتاب الله ، عارف بالفروسية والرمي ،فلا تحقرَنِّي لصغر سني..
قال أبو قدامة : فلما سمعت ذلك منه أخذته معنا، فوالله ما رأينا أنشط منه، إن ركبنا فهو أسرعنا ، وإن نزلنا فهو أنشطنا ، وهو فيكل أحواله لا يفتـُرُ لسانه عن ذكر الله تعالى أبداً.
فنزلنا منزلاً..وكناصائمين وأردنا أن نصنع فطورنا..فأقسم الغلام أن لا يصنع الفطور إلا هو..فأبيناوأبى..فذهب يصنع الفطور..وأبطأ علينا..فإذا أحد أصحابي يقول لي يا أبا قدامة اذهبوانظر ما أمر صاحبك..فلما ذهبت فإذا الغلام قد أشعل النار بالحطب ووضع من فوقهاالقدر..ثم غلبه التعب والنوم ووضع رأسه على حجر ثم نام..
فكرهت أن أوقظه منمنامه..وكرهت أن أرجع الى أصحابي خالي اليدين..فقمت بصنع الفطور بنفسي وكان الغلامعلى مرأى مني..فبينما هو نائم لاحظته بدأ يتبسم .. ثم اشتد تبسمه فتعجبت ثم بدأيضحك ثم اشتد ضحكه ثم استيقظ.. فلما رآني فزع الغلام وقال: ياعمي أبطأت عليكم دعنيأصنع الطعام عنك..أنا خادمكم في الجهاد.
فقال أبو قدامة: لا والله لستبصانع لنا شيء حتى تخبرني ما رأيت في منامك وجعلك تضحك وتتبسم . فقال: يا عمي هذه رؤيا رأيتها.. فقلت: أقسمت عليك أن تخبرني بها .
فقال: دعها.. بيني وبين الله تعالى فقلت: أقسمت عليك أنتخبرني بها
قال: رأيت ياعمي في منامي أني دخلت إلى الجنة فهي بحسنهاوجمالها كما أخبر الله في كتابه..فبينما أنا أمشي فيها وأنا بعجب شديد من حسنهاوجمالها..إذ رأيت قصراً يتلألأ أنواراً , لبنة من ذهب ولبنة من فضة ، وإذا شُرفاتهمن الدرّ والياقوت والجوهر ، وأبوابه من ذهب ، وإذا ستور مرخية على شرفاته ، وإذابجَواري يرفعن الستور ، وجوههن كالأقمار ..فلما رأيت حسنهن أخذت أنظر إليهن وأتعجبمن حسنهن فإذا بجارية كأحسن ما أنت رائي من الجواري وإذ بها تشير إلي وتحدث صاحبتهاوتقول هذا زوج المرضية هذا زوج المرضية..فقلت: لها أنتيالمرضية؟؟؟
فقالت: أنا خادمة من خدم المرضية..تريد المرضية؟؟ ادخل إلىالقصر..تقدم يرحمك الله فإذا في أعلى القصر غرفة من الذهب الأحمر عليها سرير منالزبرجد الأخضر ، قوائمه من الفضة البيضاء ، عليه جارية وجهها كأنه الشمس، لولا أنالله ثبت علي بصري لذهب وذهب عقلي من حسن الغرفة وبهاء الجارية ..
فلمارأتني الجارية قالت : مرحباً بولي الله وحبيبه .. أنا لك وأنت لي .. فلما سمعتكلامها اقتربت منها وكدت ان أضع يدي عليها قالت : يا خليلي يا حبيبي أبعد الله عنكالخناء قد بقي لك في الحياة شيء وموعدنا معك غدًا بعد صلاة الظهر.. فتبسمت من ذلكوفرحت منه يا عم.
فقلت له: رأيت خيرًا إن شاء الله.
ثم إنناأكلنا فطورنا ومضينا الى أصحابنا المرابطين في الثغور ثم حضر عدونا..وصف الجيوشَقائدنا.. وبينما أنا أتأمل في الناس..فإذ كل منهم يجمع حوله أقاربهوإخوانه..إلا الغلام.. فبحثت عنه ووجدته في مقدمة الصفوف.. فذهبت إليه وقلت: يا بنيهل أنت خبير بأمور الجهاد؟؟ قال: لا يا عم هذه والله أول معركة لي معالكفار.
فقلت يا بني إن الأمر خلاف على ما في بالك ، إن الأمر قتالودماء..فيا بني كن في آخر الجيش فان انتصرنا فأنت معنا من المنتصرين وإن هُزمنا لمتكن أول القتلى..
فقال متعجبا: أنت تقول لي ذلك؟؟ قلت: نعمأنا أقول ذلك .
قال: يا عم أتود أن أكون من أهل النار؟
قلتأعوذ بالله.. لا والله .. والله ما جئنا إلى الجهاد إلا خوفًامنها..
فقال الغلام: فان الله تعالى يقول:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ (15) وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)}الأنفال هل تريدني أوليهم الأدبار فأكون من أهل النار؟
فعجبتوالله من حرصه وتمسكه بالآيات فقلت له يا بني إن الآية مخرجها على غير
كلامك..فأبىيرجع فأخذت بيده أُرجعه إلى آخر الصفوف وأخذ يسحب يده عني فبدأت الحرب وحالت بينيوبينه.. فجالت الأبطال ، ورُميت النبال ، وجُرِّدت السيوف ، وتكسرتالجماجم ، وتطايرت الأيدي والأرجل .. واشتد علينا القتال حتى اشتغل كلٌ بنفسه ،وقال كل خليل كنت آمله ..لا ألهينك إني عنك مشغول.. حتى دخل وقت صلاة الظهر فهزمالله جل وعلا الصليبين...فلما انتصرنا جمعت أصحابي وصلينا الظهر وبعد ذلك ذهب كلمنا يبحث عن أهله وأصحابه..إلا الغلام فليس هنالك من يسأل عنه فذهبت أبحثعنه..فبينما أنا اتفقده وإذا بصوت يقول: أيها الناس ابعثوا إلي عمي أبا قُدامةابعثوا إلي عمي أبا قدامة..
فالتفت إلى مصدر الصوت فإذا الجسد جسد الغلام ..وإذا الرماح قد تسابقت إليه ، والخيلُ قد وطئت عليه فمزقت اللحمان ، وأدمت اللسانوفرقت الأعضاء ، وكسرت العظام .. وإذا هو يتيم مُلقى في الصحراء .
قال أبوقدامة : فأقبلت إليه ، وانطرحت بين يديه ، وصرخت : ها أنا أبو قدامة .. ها أنا أبوقدامة ..فقال : الحمد لله الذي أحياني إلى أن أوصي إليك ، فاسمعوصيتي.
قال أبو قدامة : فبكيت والله على محاسنه وجماله ، ورحمةً بأمه التيفجعت عام أول بأبيه وأخواله وتفجعالآن به، أخذت طرف ثوبي أمسح الدم عنوجهه.
فقال : تمسح الدم عن وجهي بثوبك !! بل امسح الدم بثوبي لا بثوبك ،فثوبي أحق بالوسخ من ثوبك.. قال أبو قدامة : فبكيت والله ولم أحرجواباً ..
فقال : يا عم ، أقسمت عليك إذا أنا مت أن ترجع إلى الرقة ، ثمتبشر أمي بأن الله قد تقبل هديتها إليه ، وأن ولدها قد قُتل في سبيل الله مقبلاًغير مدبر ، وأن الله إن كتبني في الشهداء فإني سأوصل سلامها إلى أبي وأخوالي فيالجنة ، .. ثم قال : يا عم إني أخاف ألا تصدق أمي كلامك فخذ معك بعض ثيابي التيفيها الدم، فإن أمي إذا رأتها صدقت أني مقتول ، وقل لها إن الموعد الجنة إن شاءالله ..
يا عم : إنك إذا أتيت إلى بيتنا ستجد أختاً لي صغيرة عمرها تسعسنوات .. ما دخلتُ المنزل إلا استبشرتْ وفرحتْ ، ولا خرجتُ إلا بكتْ وحزنتْ ، وقدفجعت بمقتل أبي عام أول وتفجع بمقتلي اليوم ، وإنها قالت لي عندما رأت علي ثيابالسفر : يا أخي لا تبطئ علينا وعجل الرجوع إلينا ، فإذا رأيتها فطيب صدرها بكلمات ..وقل لها يقول لك أخوكِ الله خليفتي عليكي..
ثم تحامل الغلام على نفسهوقال : يا عمّ صدقت الرؤيا ورب الكعبة ، والله إني لأرى المرضية الآن عند رأسي وأشمريحها ..ثم انتفض وتصبب العرق وشهق شهقات ، ثم مات.
قال أبو قدامة : فأخذت بعض ثيابه فلما دفناه لم يكن عندي هم أعظم من أن أرجعَ إلى الرقة وأبلغَرسالته لأمه .. فرجعت إلى الرقة وأنا لا أدري ما اسم أمه وأينتسكن..فبينما أنا أمشي وقفت عند منزل تقف على بابه فتاة صغيرة ما يمر أحد من عندبابهم وعليه أثر السفر إلا سألته يا عمي من أين أتيت فيقول من الجهاد فتقول له معكمأخي؟.. فيقول ما أدري مَن أخوك ويمضي..وتكرر ذلك مرارًا مع المارة ويتكررمعها نفس الرد..فبكت أخيرًا وقالت: مالي أرى الناس يرجعون وأخي لايرجع.. فلما رأيت حالها أقبلت عليها..فرأت علي أثر السفر فقالت ياعم من أين أتيت قلت من الجهاد فقالت معكم أخي فقلت أين هي أمك؟؟
قالت: في الداخل ودخلت تناديها..فلما أتت الأم وسمعت صوتي عرفتني وقالت: يا أبا قدامةأقبلت معزيًا أم مبشرًا؟؟ فقلت: كيف أكون معزيًاومبشرًا؟
فقالت: إن كنت أقبلت تخبرني أن ولدي قُتل في سبيل الله مقبلغير مدبر فأنت تبشرني بأن الله قد قبل هديتي التي أعدتها من سبعة عشر عامًا. وإنكنت قد أقبلت كي تخبرني أن ابني رجع سالمًا معه الغنيمة فإنك تعزيني لأن الله لميقبل هديتي إليه..
فقلت لها: بل أنا والله مبشر إن ولدك قد قتل مقبل غيرمدبر..فقالت ما أظنك صادقًا وهي تنظر إلى الكيس ثم فتحت الكيس وإذ بالدماء تغطيالملابس فقلت لها أليست هذه ثيابه التي ألبستيه إياها بيدك؟
فقالت: الله أكبروفرحت.. أما الصغيرة شهقت ثم وقعت على الأرض ففزعت أمها ودخلت تحضر لها ماء تسكبهاعلى وجهها.. أما أنا فجلست أقرأ القرآن عند رأسها..و والله مازالت تشهق وتنادي باسمأبيها وأخيها..وما غادرتها إلا ميتة..
فأخذتها أمها وأدخلتها وأغلقتالباب وسمعتُها تقول: اللهم إني قد قدمت زوجي وإخواني وولدي في سبيلك أن ترضى عني وتجمعني وإياهم في جنتك.
اننا والله في هذا الزمان لأحوج لمثل هذه الأم ومثل هذا الولد واننا كذلك بحاجةٍ الى ألف أبي قدامه نسأل الله ان يكتب لنا شهادة صادقة خالصة لوجهه الكريم.. آميــــــن
*****************************************************************
الحسن محمد العرابي
مراقب حجر صحي ومفتش أغذية بمواني البحرالاحمر
*****************************************************************
أورد ابنُالجوزي في "صفة الصفوة" وابنُ النحاس في "مشارع الأشواق" عن رجل من الصالحين اسمه أبوقدامة الشامي..
وكان رجلاً قد حبب إليه الجهاد والغزو في سبيل الله ، فلايسمع بغزوة في سبيل الله ولا بقتال بين المسلمين والكفار إلا وسارع وقاتل معالمسلمين فيه ، فجلس مرة في الحرم المدني فسأله سائل فقال : يا أبا قدامة أنت رجلقد حُبب إليك الجهاد والغزو في سبيل الله فحدثنا بأعجب ما رأيت من أمر الجهادوالغزوفقال أبو قدامة : إني محدثكم عن ذلك :
القصــه
خرجت مرة معأصحاب لي لقتال الصليبيين على بعض الثغور ( والثغور هي مراكز عسكرية تجعل على حدودالبلاد الإسلامية لصد الكفار عنها ) فمررت في طريقي بمدينة الرقة ( مدينةٍ فيالعراق على نهر الفرات ) واشتريت منها جملاً أحمل عليه سلاحي، ووعظت الناس فيمساجدها وحثثتهم على الجهاد والإنفاق في سبيل الله، فلما جن علي الليل اكتريتمنزلاً أبيت فيه ، فلما ذهب بعض الليل فإذا بالباب يُطرق عليّ ، فلما فتحت البابفإذا بامرأة متحصنة قد تلفعت بجلبابها فقلت : ما تريدين ؟
قالت : أنتأبو قدامة ؟ قلت : نعم قالت : أنت الذي جمعت المال اليوم للثغور؟
قلت : نعم ، فدفعت إلي رقعة وخرقة مشدودة وانصرفت باكية، فنظرت إلى الرقعةفإذا فيها: "إنك دعوتنا إلى الجهاد ولا قدرة لي على ذلك فقطعت أحسن ما فيَّ وهماضفيرتاي وأنفذتهما إليك لتجعلهما قيد فرسك لعل الله يرى شعري قيد فرسك في سبيلهفيغفر لي".
قال أبو قدامة : فعجبت والله من حرصها وبذلها ، وشدة شوقهاإلى المغفرة والجنة.
فلما أصبحنا خرجت أنا وأصحابي من الرقة ، فلما بلغنا حصن مسلمةبن عبد الملك فإذا بفارس يصيح وراءنا وينادي يقول : يا أبا قدامة يا أبا قدامة ، قفعليَّ يرحمك الله ، قال أبو قدامة : فقلت لأصحابي : تقدموا عني وأنا أنظر خبر هذاالفارس ، فلما رجعت إليه ، بدأني بالكلام وقال : الحمد لله الذي لم يحرمني صحبتكولم يردني خائباً. فقلت له ما تريد : قال أريد الخروج معكم للقتال . فقلت له : أسفر عن وجهك أنظر إليك فإن كنت كبيراً يلزمكالقتال قبلتك ، وإن كنت صغيراً لا يلزمك الجهاد رددتك.
فقال : فكشفاللثام عن وجهه فإذا بوجه مثل القمر وإذا هو غلام عمره سبع عشرةسنة.
فقلت له : يا بني ؟ عندك والد ؟
قال : أبي قد قتلهالصليبيون وأنا خارج أقاتل الذين قتلوا أبي. قلت : أعندك والدة ؟ قال : نعم
قلت : ارجع إلى أمك فأحسن صحبتها فإن الجنة تحت قدميها فقال : أما تعرف أمي ؟
قلت : لا.. قال : أمي هي صاحبةالوديعة، قلت : أي وديعة ؟
قال : هي صاحبةالشكال، قلت : أي شكال ؟
قال : سبحان الله ما أسرع ما نسيت !! أما تذكر المرأة التي أتتك البارحة وأعطتك الكيس والشكال ؟؟ قلت : بلى
قال : هي أمي ، أمرتني أن أخرج إلى الجهاد ، وأقسمت عليَّ أن لا أرجع
وإنها قالت لي : يا بني إذا لقيت الكفار فلا تولهم الدُبُر ، وهَب نفسك لله واطلبمجاورة الله، ومساكنة أبيك وأخوالك في الجنة ، فإذا رزقكالله الشهادة فاشفعفيَّ.. ثم ضمتني إلى صدرها ، ورفعت بصرها إلى السماء ، وقالت : إلهي وسيدي ومولاي،هذا ولدي ، وريحانةُ قلبي، وثمرةُ فؤادي ، سلمته إليك فقربه من أبيهوأخواله..
ثم قال: سألتك بالله ألا تحرمني الغزو معك في سبيل الله ، أناإن شاء الله الشهيد ابن الشهيد ، فإني حافظ لكتاب الله ، عارف بالفروسية والرمي ،فلا تحقرَنِّي لصغر سني..
قال أبو قدامة : فلما سمعت ذلك منه أخذته معنا، فوالله ما رأينا أنشط منه، إن ركبنا فهو أسرعنا ، وإن نزلنا فهو أنشطنا ، وهو فيكل أحواله لا يفتـُرُ لسانه عن ذكر الله تعالى أبداً.
فنزلنا منزلاً..وكناصائمين وأردنا أن نصنع فطورنا..فأقسم الغلام أن لا يصنع الفطور إلا هو..فأبيناوأبى..فذهب يصنع الفطور..وأبطأ علينا..فإذا أحد أصحابي يقول لي يا أبا قدامة اذهبوانظر ما أمر صاحبك..فلما ذهبت فإذا الغلام قد أشعل النار بالحطب ووضع من فوقهاالقدر..ثم غلبه التعب والنوم ووضع رأسه على حجر ثم نام..
فكرهت أن أوقظه منمنامه..وكرهت أن أرجع الى أصحابي خالي اليدين..فقمت بصنع الفطور بنفسي وكان الغلامعلى مرأى مني..فبينما هو نائم لاحظته بدأ يتبسم .. ثم اشتد تبسمه فتعجبت ثم بدأيضحك ثم اشتد ضحكه ثم استيقظ.. فلما رآني فزع الغلام وقال: ياعمي أبطأت عليكم دعنيأصنع الطعام عنك..أنا خادمكم في الجهاد.
فقال أبو قدامة: لا والله لستبصانع لنا شيء حتى تخبرني ما رأيت في منامك وجعلك تضحك وتتبسم . فقال: يا عمي هذه رؤيا رأيتها.. فقلت: أقسمت عليك أن تخبرني بها .
فقال: دعها.. بيني وبين الله تعالى فقلت: أقسمت عليك أنتخبرني بها
قال: رأيت ياعمي في منامي أني دخلت إلى الجنة فهي بحسنهاوجمالها كما أخبر الله في كتابه..فبينما أنا أمشي فيها وأنا بعجب شديد من حسنهاوجمالها..إذ رأيت قصراً يتلألأ أنواراً , لبنة من ذهب ولبنة من فضة ، وإذا شُرفاتهمن الدرّ والياقوت والجوهر ، وأبوابه من ذهب ، وإذا ستور مرخية على شرفاته ، وإذابجَواري يرفعن الستور ، وجوههن كالأقمار ..فلما رأيت حسنهن أخذت أنظر إليهن وأتعجبمن حسنهن فإذا بجارية كأحسن ما أنت رائي من الجواري وإذ بها تشير إلي وتحدث صاحبتهاوتقول هذا زوج المرضية هذا زوج المرضية..فقلت: لها أنتيالمرضية؟؟؟
فقالت: أنا خادمة من خدم المرضية..تريد المرضية؟؟ ادخل إلىالقصر..تقدم يرحمك الله فإذا في أعلى القصر غرفة من الذهب الأحمر عليها سرير منالزبرجد الأخضر ، قوائمه من الفضة البيضاء ، عليه جارية وجهها كأنه الشمس، لولا أنالله ثبت علي بصري لذهب وذهب عقلي من حسن الغرفة وبهاء الجارية ..
فلمارأتني الجارية قالت : مرحباً بولي الله وحبيبه .. أنا لك وأنت لي .. فلما سمعتكلامها اقتربت منها وكدت ان أضع يدي عليها قالت : يا خليلي يا حبيبي أبعد الله عنكالخناء قد بقي لك في الحياة شيء وموعدنا معك غدًا بعد صلاة الظهر.. فتبسمت من ذلكوفرحت منه يا عم.
فقلت له: رأيت خيرًا إن شاء الله.
ثم إنناأكلنا فطورنا ومضينا الى أصحابنا المرابطين في الثغور ثم حضر عدونا..وصف الجيوشَقائدنا.. وبينما أنا أتأمل في الناس..فإذ كل منهم يجمع حوله أقاربهوإخوانه..إلا الغلام.. فبحثت عنه ووجدته في مقدمة الصفوف.. فذهبت إليه وقلت: يا بنيهل أنت خبير بأمور الجهاد؟؟ قال: لا يا عم هذه والله أول معركة لي معالكفار.
فقلت يا بني إن الأمر خلاف على ما في بالك ، إن الأمر قتالودماء..فيا بني كن في آخر الجيش فان انتصرنا فأنت معنا من المنتصرين وإن هُزمنا لمتكن أول القتلى..
فقال متعجبا: أنت تقول لي ذلك؟؟ قلت: نعمأنا أقول ذلك .
قال: يا عم أتود أن أكون من أهل النار؟
قلتأعوذ بالله.. لا والله .. والله ما جئنا إلى الجهاد إلا خوفًامنها..
فقال الغلام: فان الله تعالى يقول:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ (15) وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)}الأنفال هل تريدني أوليهم الأدبار فأكون من أهل النار؟
فعجبتوالله من حرصه وتمسكه بالآيات فقلت له يا بني إن الآية مخرجها على غير
كلامك..فأبىيرجع فأخذت بيده أُرجعه إلى آخر الصفوف وأخذ يسحب يده عني فبدأت الحرب وحالت بينيوبينه.. فجالت الأبطال ، ورُميت النبال ، وجُرِّدت السيوف ، وتكسرتالجماجم ، وتطايرت الأيدي والأرجل .. واشتد علينا القتال حتى اشتغل كلٌ بنفسه ،وقال كل خليل كنت آمله ..لا ألهينك إني عنك مشغول.. حتى دخل وقت صلاة الظهر فهزمالله جل وعلا الصليبين...فلما انتصرنا جمعت أصحابي وصلينا الظهر وبعد ذلك ذهب كلمنا يبحث عن أهله وأصحابه..إلا الغلام فليس هنالك من يسأل عنه فذهبت أبحثعنه..فبينما أنا اتفقده وإذا بصوت يقول: أيها الناس ابعثوا إلي عمي أبا قُدامةابعثوا إلي عمي أبا قدامة..
فالتفت إلى مصدر الصوت فإذا الجسد جسد الغلام ..وإذا الرماح قد تسابقت إليه ، والخيلُ قد وطئت عليه فمزقت اللحمان ، وأدمت اللسانوفرقت الأعضاء ، وكسرت العظام .. وإذا هو يتيم مُلقى في الصحراء .
قال أبوقدامة : فأقبلت إليه ، وانطرحت بين يديه ، وصرخت : ها أنا أبو قدامة .. ها أنا أبوقدامة ..فقال : الحمد لله الذي أحياني إلى أن أوصي إليك ، فاسمعوصيتي.
قال أبو قدامة : فبكيت والله على محاسنه وجماله ، ورحمةً بأمه التيفجعت عام أول بأبيه وأخواله وتفجعالآن به، أخذت طرف ثوبي أمسح الدم عنوجهه.
فقال : تمسح الدم عن وجهي بثوبك !! بل امسح الدم بثوبي لا بثوبك ،فثوبي أحق بالوسخ من ثوبك.. قال أبو قدامة : فبكيت والله ولم أحرجواباً ..
فقال : يا عم ، أقسمت عليك إذا أنا مت أن ترجع إلى الرقة ، ثمتبشر أمي بأن الله قد تقبل هديتها إليه ، وأن ولدها قد قُتل في سبيل الله مقبلاًغير مدبر ، وأن الله إن كتبني في الشهداء فإني سأوصل سلامها إلى أبي وأخوالي فيالجنة ، .. ثم قال : يا عم إني أخاف ألا تصدق أمي كلامك فخذ معك بعض ثيابي التيفيها الدم، فإن أمي إذا رأتها صدقت أني مقتول ، وقل لها إن الموعد الجنة إن شاءالله ..
يا عم : إنك إذا أتيت إلى بيتنا ستجد أختاً لي صغيرة عمرها تسعسنوات .. ما دخلتُ المنزل إلا استبشرتْ وفرحتْ ، ولا خرجتُ إلا بكتْ وحزنتْ ، وقدفجعت بمقتل أبي عام أول وتفجع بمقتلي اليوم ، وإنها قالت لي عندما رأت علي ثيابالسفر : يا أخي لا تبطئ علينا وعجل الرجوع إلينا ، فإذا رأيتها فطيب صدرها بكلمات ..وقل لها يقول لك أخوكِ الله خليفتي عليكي..
ثم تحامل الغلام على نفسهوقال : يا عمّ صدقت الرؤيا ورب الكعبة ، والله إني لأرى المرضية الآن عند رأسي وأشمريحها ..ثم انتفض وتصبب العرق وشهق شهقات ، ثم مات.
قال أبو قدامة : فأخذت بعض ثيابه فلما دفناه لم يكن عندي هم أعظم من أن أرجعَ إلى الرقة وأبلغَرسالته لأمه .. فرجعت إلى الرقة وأنا لا أدري ما اسم أمه وأينتسكن..فبينما أنا أمشي وقفت عند منزل تقف على بابه فتاة صغيرة ما يمر أحد من عندبابهم وعليه أثر السفر إلا سألته يا عمي من أين أتيت فيقول من الجهاد فتقول له معكمأخي؟.. فيقول ما أدري مَن أخوك ويمضي..وتكرر ذلك مرارًا مع المارة ويتكررمعها نفس الرد..فبكت أخيرًا وقالت: مالي أرى الناس يرجعون وأخي لايرجع.. فلما رأيت حالها أقبلت عليها..فرأت علي أثر السفر فقالت ياعم من أين أتيت قلت من الجهاد فقالت معكم أخي فقلت أين هي أمك؟؟
قالت: في الداخل ودخلت تناديها..فلما أتت الأم وسمعت صوتي عرفتني وقالت: يا أبا قدامةأقبلت معزيًا أم مبشرًا؟؟ فقلت: كيف أكون معزيًاومبشرًا؟
فقالت: إن كنت أقبلت تخبرني أن ولدي قُتل في سبيل الله مقبلغير مدبر فأنت تبشرني بأن الله قد قبل هديتي التي أعدتها من سبعة عشر عامًا. وإنكنت قد أقبلت كي تخبرني أن ابني رجع سالمًا معه الغنيمة فإنك تعزيني لأن الله لميقبل هديتي إليه..
فقلت لها: بل أنا والله مبشر إن ولدك قد قتل مقبل غيرمدبر..فقالت ما أظنك صادقًا وهي تنظر إلى الكيس ثم فتحت الكيس وإذ بالدماء تغطيالملابس فقلت لها أليست هذه ثيابه التي ألبستيه إياها بيدك؟
فقالت: الله أكبروفرحت.. أما الصغيرة شهقت ثم وقعت على الأرض ففزعت أمها ودخلت تحضر لها ماء تسكبهاعلى وجهها.. أما أنا فجلست أقرأ القرآن عند رأسها..و والله مازالت تشهق وتنادي باسمأبيها وأخيها..وما غادرتها إلا ميتة..
فأخذتها أمها وأدخلتها وأغلقتالباب وسمعتُها تقول: اللهم إني قد قدمت زوجي وإخواني وولدي في سبيلك أن ترضى عني وتجمعني وإياهم في جنتك.
اننا والله في هذا الزمان لأحوج لمثل هذه الأم ومثل هذا الولد واننا كذلك بحاجةٍ الى ألف أبي قدامه نسأل الله ان يكتب لنا شهادة صادقة خالصة لوجهه الكريم.. آميــــــن
*****************************************************************
الحسن محمد العرابي
مراقب حجر صحي ومفتش أغذية بمواني البحرالاحمر
*****************************************************************
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى